الخميس، 27 مارس 2008

تفرّد الدولار وإلغاء الذهب

بعد إعلان ريتشارد نيكسون وقف العمل بنظام النقد الدولي، انتهت مرحلة قاعدة (نظام الصرف بالذهب)، وأوقف تبديل الدولار بالذهب، فيكون نيكسون بذلك قد كسر اتفاقية بريتون وودز، وخرق الاتفاقات الدولية، بين أميركا وحليفاتها من الدول الغنية، وأصيب عالم المال بذهول شديد جراء هذا القرار، وكان نيكسون قد أراد تحقيق أمرين اثنين بهذا الإعلان. الأول:إنقاذ الدولار من الأزمات المتتالية التي أصابته، والثاني: إبعاد الذهب كلياً عن ساحة التعامل النقدي، وإقرار الدولار ليكون على قمة الاقتصاد الدولي من كافة الوجوه.
لقد نجح نيكسون في الأمر الثاني، حيث أبعد الذهب كلياً عن ميدان المعاملات المالية والنقدية، وتفرد الدولار بكافة الأدوار التي كان يقوم بها الذهب. أما الأمر الأول، وهو إنقاذ الدولار من الأزمات التي ألمت به، وبالتالي النهضة بالاقتصاد الأميركي، وعلاج ميزان المدفوعات الأميركي، فإن هذا الأمر لم يتحقق للرئيس نيكسون، وإنه وإن كان قد أعطى للاقتصاد الأميركي وللدولار مسكِّناً يخفف عنه آلامه, ولكنه لم يف بالمقصود، لماذا؟ لأن العلَّة آتية من صلب النظام النقدي الدولي. فالدولار وإن كان قد فرض نقداً عالمياً، ولكنه يبقى نقداً محلياً، له هوية قومية معينة، ويظهر تحيزه لاقتصاد دولته، ومعه المؤسسات النقدية التي أسست ابتداءً للقيام بهذا الدور، وبخاصة صندوق النقد الدولي.
وبدأت المرحلة الثالثة من نظام النقد الدولي إثر إعلان نيكسون في 15/8/71 وقف تبديل الدولار الذهب – بظهور الارتباك على الدول الغنية، وقامت باتخاذ إجراءات متعددة وقائية وعلاجية. وكان أبرزها بيان الإليزيه واتفاق واشنطن.
1- بيان الإليزيه:
بتاريخ 18/8/71، عقب إصدار الرئيس الأميركي نيكسون قراراته المشهورة، بادر الرئيس الفرنسي إلى إصدار بيان رسمي سمِّي (بيان الإليزيه)، يدعو فيه الدول الأعضاء في السوق الأوروبية المشتركة، إلى عقد مؤتمر قمة، يكون بمثابة رد انتقامي أوروبي، في المجالين الاقتصادي والنقدي، ضد الولايات المتحدة، فلقد استاء الفرنسيون الذين يشعرون دائماً بالقلق إزاء موقف الاقتصاد الأميركي من أوروبا، وأثره على بقية دول العالم من الإجراءات الأميركية المذكورة، واعتبروها إجراءات غير مشروعة، وفقاً للوائح صندوق النقد الدولي، والاتفاقية العامة للتجارة، والتعريفة الجمركية (الجات).
إن الإجراءات المذكورة التي اتخذها نيكسون، ومنها فرض ضريبة إضافية قدرها 10% على الواردات، ووقف عمليات تحويل الدولار إلى ذهب، وكذلك مطالبة نيكسون بإعادة تقييم العملات الغربية الأخرى، بمواجهة تدهور الموقف الاقتصادي والنقدي للولايات المتحدة, ولتحقيق تصحيح نسبي للعجز الضخم في ميزان المدفوعات الأميركي مع أوروبا الغربية، هذه الإجراءات الأميركية جعلت دول السوق الأوروبية المشتركة معرضةً للإصابة بعجز تجاري تقدر قيمته بنحو (2) مليار دولار سنوياً، وخاصة بسبب ارتفاع أسعار تحويل عملات دول السوق، كما تأثرت نسبة 87% من صادرات السوق الأوروبية إلى الولايات المتحدة، بما قيمته 5725 مليون دولار أي (12.8%) من مجموع صادرات دول السوق المشتركة إلى العالم.
2- اتفاق واشنطن:
عقدت مجموعة الدول العشر الغنية اجتماعاً في واشنطن، بتاريخ 18/12/71. وإثر الاجتماع، وفي ختامه، وقع زعماء هذه الدول اتفاقاً بخصوص نظام النقد الدولي، أصبح يعرف باسم (اتفاق واشنطن). نصت اتفاقات واشنطن هذه على اعتماد (الثعبان النقدي) الذي يقوم على تثبيت أسعار العملات تجاه بعضها, وتلزم المصارف المركزية بالتدخل في الأسواق المالية دفاعاً عن أسعار عملاتها. وغاب عن نص الاتفاق أي ذكر لدور الذهب في تحديد أسعار صرف العملات. وبعد مضي بضعة أشهر عجز اتفاق واشنطن عن الصمود؛ لأنه لم يعالج جوهر المشكلة، وإنما هرب من حلها نحو الأمام. فظهرت المضاربات على الإسترليني، وعجزت الحكومة البريطانية عن دفع ديونها لصندوق النقد الدولي, وأعلنت تعويم سعر صرف الجنيه الإسترليني في الأسواق الدولية، متجاوزة الثعبان النقدي. وفي مطلع عام 1973، وأمام عجز ميزان المدفوعات الأميركي، عادت المضاربات على الدولار في الأسواق المالية الدولية، فاضطرت الحكومة الأميركية لتخفيض سعر صرف الدولار مرة أخرى بنسبة 10% وأعلنت انسحابها من الثعبان النقدي، ثم تبعتها اليابان. فيما كونت دول السوق الأوروبية ثعبانها النقدي الخاص بها. واستمرت هذه الحال، وهي تعويم أسعار الدولار، والإسترليني، والين الياباني، حتى سميت تلك الفترة (نظام الصرف العائم) وهي في الحقيقة ليست سوى تعبير عن الفوضى النقدية الشاملة، وغياب أي نظام نقدي دولي.
إن ميزان القوى العسكرية السياسي هو الذي ألغى نظام (القاعدة الذهبية)، وفرض نظام (قاعدة الصرف بالذهب)؛ ليشارك الدولار الذهب في القيمة الذاتية له. وميزان القوى العسكرية السياسي هو الذي ارتأى إلغاء نظام (قاعدة الصرف بالذهب)، وكرس نظام (قاعدة الاعتماد على الدولار) فقط، وتنحية الذهب عن الساحة النقدية في العالم، حتى وصل الحال بالعنجهية الأميركية -وهي تعتبر نفسها فوق القانون الدولي، بل وتحدد مساره حسب مصلحتها- في مؤتمر نيروبي الذي انعقد في صيف 1973، حيث مثَّل الوفد الأميركي (جورج شولتز) الذي كان وزيراً للخزانة الأميركية، قبل أن يصبح وزيراً للخارجية الأميركية، فقد وجه مسبات علنية لممثل مجموعة العشرين المنبثقة عن الدول النامية، واتهمه شولتز بالكذب والتزوير، وعندما طالب الهولندي (ويتفين)، الذي كان مديراً للصندوق في ذلك الوقت، وزير الخزانة الأميركية، ومصرف الاحتياط الفدرالي، بدعم الدولار، ووضع برنامج حقيقي للقضاء على عجز ميزان المدفوعات الأميركي، هاجمه شولتز بعنف شديد، ووضع الفيتو أمام إعادة انتخابه مديراً للصندوق، وقبل نهاية العام نفسه وقعت حرب أكتوبر، وحدثت الطفرة في ارتفاع أسعار النفط.

ليست هناك تعليقات: